السقوط في رياضة المونوتييزم

تأملات في حركات السقوط ، السقوط حركة كونية ذات أبعاد روحية و نفسية وهي آلية من الآليات لبلوغ الكمالات الإنسانية ... ا

حركات السقوط في رياضة المونوتييزم

إن مفهوم الحركة في ظاهره بسيط لا يحتاج إلى توضيح ، و لكن عند النظر و التمحيص يغدو هذا الموضوع غامضا و شائكا ، فقد تعددت الدراسات و الأبحاث ، سواء الفلسفية ، أو العلمية التجريبية ، أو النفسية الروحية في هذا المجال و قد سال حبر كثير لدراسة هذه الظاهرة الكونية التي ترتبط في عالمنا هذا ارتباطا وثيقا بالمكان و الزمان ، و سنولي لهذا الموضوع أهمية خاصة و بحث خاص في وقت لاحق تحت ركن ثابت في الموقع بعنوان  ” تأملات ” ، خاصة و أن الرياضات تعتمد بصفة كاملة على الحركة ، سواء البدنية ،  أو النفسية الروحية ( الحركة الجوهرية ) (1) .

و من الحركة ،   السُقُوط .

إن السّقوط بمفهومه الشامل و العميق في عالمنا الدنيوي هو حركة كونية مرتبطة و متلازمة مع الجذب و الارتطام ، فالسقوط هو حركة  من و إلى ، من نقطة إلى أخرى و من علو إلى أسفل و من حين إلى آخر  ( من السين مرورا بالقاف  و الواو، وصولا للطاء )  و فيه معاني كثيرة كمعنى الرسوب إذا قيل سقط في الامتحان و هو بمعنى بيان الحقيقة و ظهورها إذا قيل سقطت الأقنعة وهو بمعنى الغياب إذا قيل سقط النجم  وهو بمعنى العثور إذا قيل سقط على ضالته  …

أما موضوع حديثنا فيندرج تحت عنوان :

مفهوم السقوط في رياضة المونوتييزم  و أهميته بالنسبة للمرتاض

و كما أنها لا تخلو رياضة من حركات السقوط ، إلا أن ما يميز رياضة على أخرى هو أن بعضها ،  وهي قليلة ، تهتم و تولي لحركات السقوط اهتماما خاصا ، حتى أنها تَتَفَنَّنُ و تُبْدِعُ في هذه الحركات ، كرياضة الجودو و الآيكيدو و الباركور و …  فهذه الرياضات تُخَصِّصُ حصصا و تمارين حركية فنية للسقوط ،  كما تراجع و تكرر هذه الحركات في كل حصة تدريبية و ذلك لتحسينها و إتقانها ، لتصبح في النهاية حركات أوتوماتيكية ( عفوية و غير إرادية ).

.

.

و السقوط سقوطان ، سقوط جبري(2)  و سقوط طوعي(3)

و رياضة المونوتييزم تعتمد كثيرا على حركات السقوط مثلها مثل رياضة الجودو و ذلك من الجانب التقني الحركي مع بعض الاختلافات الصغيرة طبعا ، و لكن تَمَيُّزُ رياضة المونوتييزم  بفلسفتها التطابقية التي تنفرد بها ، في حركات السقوط ، تفتح أمامنا أبوابا شتى من التأمل و النظر …

.

.

الرياضي الذي لا يتقن السقوط في رياضة المونوتييزم ليس بمرتاض (4)

حركة السقوط الأمامية في رياضة الجودو

إن الطفل لا يستطيع أن يُحسِنَ المشي إلا بعد سقوطه عديد المرات و قد يسبب ذلك له أوجاع و إصابات ، و لكنه في النهاية يصل إلى هدفه الفطري ، فالسقوط حركة كونية ثابتة لا غبار عليها و ما على ذوي الألباب إلا إتقانها و حسن التحكم فيها ، كما أننا ، لو تأملنا في مَشَاهِدِ السقوط من حولنا لرأينا العجب العجاب ، فالسقوط الذاتي الطبيعي(5)  لتفاحة نيوتن على الأرض لم يكن ليتحقق إلا بعد بلوغها النُّمُوَّ و النُّضج الكامل .

.

سقوط الثمار بعد الكمال و النضج

.

فشجرة الزيتون مثلا تكون أغصانها شامخة متجهة نحو السماء و كأنها تشير إلى هذا الفضاء الشاسع لِتَسْبَح في أرجائه و تنعم بآثاره ( صورة 1 ) فَتُزْهِرُ و تثمرُ ، حتى تنحني بأغصانها راكعةً ، و كأنها تقر بفضله و كرمه و عطائه ( صورة 2 ) ، إلى أن يكتمل نُمُوُّ ثمارها لتلامس أطراف أغصانها أو تكاد بساط الأرض ، هنا و بعد الكمال و النضج  يأتي الرضوخ و الاستسلام ، يأتي الاستقرار ، يأتي السقوط ، سقوط الثمار الطازجة ، إنه السجود ( صورة 3 ) .

1
2
3

و من وجهة نظر نفسية و روحية ، تظهر للعيان نظرية التّطَابُقِ و التماثل في رياضة المونوتييزم ،  فحركة السقوط و ملامسة الأرض توحي بالاستسلام و الرضوخ و السجود ،    و لا يتحقق ذلك إلا بعد الإتقان و التمكن البدني و النفسي لهذه الحركة ، ألا وهي حركة السقوط فببلوغ النضج  و الكمال ينعدم الخوف من المآل   .

و من أسرار هذه الحركة ( حركة السقوط الإرادي الطوعي )(6)  بمعانيها الدلالية الرائعة نراها في أغلب حركات التعبد و في جميع الديانات بنحو السجود و الخضوع .

ففي الدين الإسلامي :  يخر العبد و يهوي ساجدا فيكون حينها في أكمل صور القرب إلى خالقه ، إنه سقوط واستسلام .

( و لله يسجد من في السماوات و الأرض طوعا و كرها و ظلالهم بالغدو و الآصال ) (7)

                                                                                                                         الرعد 15

” ذل العبودية يوصلك إلى عز الربوبية ” (8)      

كذاك في الديانة المسيحية  : ففي إنجيل : يوحنا 4 /  24

( اَللهُ رُوحٌ ، وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا )

 

السجود أثناء رسامة أساقفة في الكنيسة الكاثوليكية

كذالك في الديانة اليهودية :

ففي توراة : (سفر المزامير 95: 6)

( Venez, prosternons- nous, inclinons-nous,Ployons les genoux devant l’Eternel qui nous a faits ! )

 ( Psaume 95 / 6 )

الترجمة العربية :

( هَلُمَّ نَسْجُدُ وَنَرْكَعُ وَنَجْثُو أَمَامَ الرَّبِّ خَالِقِنَا )

Maqôr Hayim :  la prosternation israélite
سجدة بني إسرائيل

كذالك في الديانة البوذية :

الشعور بالاستسلام الذاتي

Prosternation (bouddhisme)
السجود البوذي

فالسجود هو شعور بالاستسلام الطوعي ، هو راحة واستقرار 

إنها حركة ذات معنى كوني مقدَّس .

فشتان بين من يحسن السقوط و يتقنه ، بل و يتفنن فيه ، و بين من يجهله أو يتجاهله .

فمن ينكر و يتجاهل السقوط فكأنما ينكر فطرته ، و يتعسف على سنة من سنن هذا الكون ، ليعود عليه هذا الأمر الحتمي  بالصدمة و الإذهال ، ذلك لأن السقوط بالنسبة له هو  نهاية و فناء .

و أما من قبل بهذا الأمر الفطري ألا وهو السقوط ، بدون استعداد و لا اهتمام ، فقد يتدارك الأمر و يكون سقوطه ألطف و أقل أضرارا من سابقه ، فيكون بإمكانه القيام و النهوض من جديد بعد ألمٍ أكيد .

” ليس الفشل أن نسقط بل الفشل أن نَمْكُثَ حيث سقطنا “

و أما من أتقن السقوط فَتَلَبَّسَهُ و مَحَضَهُ محضا و تفنن فيه ، فالراحة و الاطمئنان روضته و الصبر على الشدائد صفته و العزيمة و الإصرار وجهته .

يقال في الأثر :        من جهل شيء عاداه

فمن جهل السقوط عاداه و خافه و ما السقوط في هذه الدنيا إلا آلية كونية و مثال تطابقي بفضله يشتد عود الإنسان و يقوى …

فالموت    =   سقوط ،  وحكمته الانتقال من عالم لآخر …

( و إذا ما الموت أدنى و القبر أفغر فاه *** اغمض جفونك تبصر في الموت سر الحياة )(10)

و الإفلاس  =   سقوط   ،  و حكمته :

( غني بلا مال عن الناس كلهم *** و ليس الغناء إلا عن الشيء لا به )(11)   

و الرسوب  =  سقوط  ،  و حكمته :

( بقدرِ الكدِّ تكتسبُ المعالي *** ومن طلب العلا سهر الليالي

      ومن رام العلا من غير كد *** أضاع العمر في طلب المحال )(12)

فتأمل !!!  .

رمزي شبيل


1 :  نظرية  ” الحركة الجوهرية ”  لصدر الدين الشيرازي  ( الملقب بالملا صدرا أو صدر المتألهين )  من كبار الفلاسفة المسلمين في القرن العاشر الهجري .

2 :  السقوط الجبري هو السقوط المفروض على كل الكائنات دون اختيارها

3 :  السقوط الطوعي هو عكس السقوط الجبري فهو سقوط اختياري إرادي 

4 :  المرتاض هو الرياضي الذي تدرب باستمرار على التمارين الخاصة برياضة المونوتييزم  إلى أن بدأ بصعود سلم درجات الكمال البدني و الروحي …

5 :  المقصود بالسقوط الذاتي الطبيعي هو السقوط الخالي من التأثيرات الخارجية كالحشرات الضارة و القطف العشوائي  و …

6 :  السقوط الإرادي الطوعي هو السقوط و الرضوخ و الاستسلام الاختياري دون كره و إلزام

7 :  القرآن الكريم  ، سورة الرعد  الآية  15

8 :  مقولة  من معنى كلمات الإمام أبو عبد الله جعفر أحد كبار أئمة المسلمين        

9 :  أبيات شعر للكاتب و الشاعر ميخائيل نعيمة         

10 و 11 : أبيات شعر للإمام الشافعي           

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial
© 2016 monotheisme. All Rights Reserved.